نظرية النظم عند الجرجاني ..
نظرية النظم عند الجرجاني :
من اقوال الجرجاني في كتابه دلائل الاعجاز عن نظرية النظم
وقد عَلمْتَ إطباقَ العُلماءِ على تعظيمِ شأنِ "النظم" وتخيم قَدْره،
والتنويهِ بذكرهِ، وإجماعَهم أنْ لا فضْلَ معَ عَدَمِه، ولا قَدْر لكلامٍ إِذا هو لم
يَستقمْ لَهُ، ولو بلغَ في غَرابةِ معناهُ ما بَلغَ3 وبَتَّهُمُ الحُكْمَ بأنه الذي
لا تَمامَ دونَه، ولا قِوام إلاَّ بهِ، وأَنه القطُبُ الذي عليه المَدارُ، والعَمودُ
الذي به الاستقلال. وما كانَ بهذا المحلَّ من الشَرَفِ، وفي هذِه
المنزلةِ من الفضلِ، وموضوعاً هذا المَوْضعَ منَ المزية، وبالغاً هذا المبلغَ
منَ الفضيلةِ كان حَرىّ بأن توقَظَ له الهِمَمُ، وتُوكَلَ به النفوسُ،
وتُحرَّكَ له الأفكارُ، وتُستخدَمَ فيه الخواطرُ4 وكان العاقَلُ جَديراً أَن لا يَرْضى
من نَفْسه بأن يَجد فيهِ سبيلاً إِلى مزيَّة عِلْم، وفَضْلِ استبانةٍ،
وتلخيصٍ حُجَّةٍ5، وتحرير دليل، إعلم أنْ ليسَ "النظمُ" إِلا أن تضعَ كلامكَ
الوضعَ الذي يَقتضيهِ "علمُ النحو"، وتعملَ على قوانينهِ وأُصولِه،
وتعرفَ مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها،
وتحفَظُ الرُّسومَ التي رُسمتْ لك4، فلا تُخِلَّ بشيءٍ منها.
واعلمْ أنَّ ممَّا هو أَصلٌ في أنَ يدِقَّ النظرُ، ويَغْمُضَ المَسْلكُ،
في توخِّي المعاني التي عرفتَ: أنْ تتَّحِدَ أجزاءُ الكلامِ ويَدخلَ بعضُها في بعضٍ،
ويشتدَّ ارتباطُ ثانٍ منها بأول، وأن تحتاج في الجِملة إِلى أن تضَعَها في النفس وضعًا واحد ًا
، وأن يكونَ حالُكَ فيها حالَ الباني يَضعُ بيمينه ههنا في حالِ ما يَضَعُ بيَسارِه هناك. نَعم،
وفي حالِ ما يُبْصر مكانَ ثالثٍ ورابعٍ يَضعُهما بَعْدَ الأَوَّلَيْن. وليس لِما شأْنهُ أن يجيءَ على هذا الوصفِ حَدٌّ يَحْصرُه،
وقانونٌ يُحيطُ به، فإِنه يجيءُ على وجوهٍ شتَّى، وأنحاءَ مختلفةٍ.
فمن ذلك أن تُزاوِجَ بينَ معنيينِ في الشرط والجزاء معاً، كقول البحتري:
إِذا ما نَهى النّاهِي فلجَّ بيَ الهوى، ... أصاختْ إِلى الوَاشِي فلجَّ بها الهجرُ2
وقوله:
إذا احتريت يومًا ففاضت دماؤها، ... تذكره القرى ففاضتْ دموعُها
فهذا نوع .
تحليل الجرجاني لاية : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]،
وهل تشكُّ إِذا فكَّرْت في قولهِ تعالى {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]
فتَجلَّى لك منها الإعجازُ، وبَهَركَ الذي تَرى وتَسْمَعُ2 أَنك لم تَجد ما وَجَدْتَ منَ المزية الظاهرة،
والفضيلة القاهرة، إلا لمر يَرجعُ إلى ارتباطِ هذه الكَلِم بعضِها ببعضٍ،
وأن لم يَعرِضْ لها الحُسْنُ والشرفُ إلاَّ مِنْ حيثُ لاقَتْ الأُولى بالثانية،
والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقريَها إلى آخِرها وأنَّ الفضلَ تَناتَجَ ما بينها، وحصَل من مجموعها؟
إن شكَكْتَ، فتأملْ: هل ترى لفظة منها بحيثُ لو أُخِذَتْ من بين أَخواتها وأُفردتْ،
لأَدَّت منَ الفصاحة ما تُؤدِّيه وهي في مكانها منَ الآية؟ قُل: "إبلَعي"،
واعتبرْها وحْدَها من غيرِ أن تَنْظُرَ إلى ما قَبْلَها وما بعدَها، وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها.
وكيفَ بالشكَّ في ذلك، ومعلومٌ أنَّ مبْدَأ العظمةِ في أن نُوديت الأرضُ، ثم أُمرَتْ،
ثم في أن كان النداء "بيا" دُوْنَ "أيّ"، نحوُ "يا أيتها الأرضُ"، ثم
37 - إن شكَكْتَ، فتأملْ: هل ترى لفظة منها بحيثُ لو أُخِذَتْ من بين أَخواتها وأُفردتْ،
لأَدَّت منَ الفصاحة ما تُؤدِّيه وهي في مكانها منَ الآية؟ قُل: "إبلَعي"،
واعتبرْها وحْدَها من غيرِ أن تَنْظُرَ إلى ما قَبْلَها وما بعدَها، وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها.
وكيفَ بالشكَّ في ذلك، ومعلومٌ أنَّ مبْدَأ العظمةِ في أن نُوديت الأرضُ، ثم أُمرَتْ،
ثم في أن كان النداء "بيا" دُوْنَ "أيّ"، نحوُ "يا أيتها الأرضُ"، ثم
إضافةِ "الماءِ" إلى "الكافِ"، دونَ أن يقالَ: "ابلعي ماءك"1، ثم أنْ أُتبعَ نداءُ الأرض وأمرُها
بما هو من شأنها، نداءَ السماء وأمرَها كذلك، بما يَخصُّها، ثم أنْ قيل: و {وَغِيضَ الْمَاء}،
فجاء الفعلُ على صيغة "فُعِل" الدالَّةِ على أنَّه لم يَغِضْ إلاَّ بأَمر آمرٍ وقُدرةِ قادرٍ،
ثم تأكيدُ ذلك وتقريرُه بقولهِ تعالى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}، ثم ذكرُ ما هو فائدةُ هذه الأمور، وهو:
{اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي}، ثم إضمارُ "السفينةِ" قَبْل الذكْر، كما هو شرطُ الفخامةِ والدلالةِ
على عِظَم الشأن، ثم مقابلة "قيل" في الخاتمة "بقيل" في الفاتحة؟ أَفَتَرى لِشيءٍ
من هذه الخصائصِ التي تملوك بالإِعجازِ روعةً2، وتحضُرُكَ عندَ تصورِها هيبةٌ
تُحيطُ بالنفس من أقطارِها3 تعلُّقاً باللفظ من حيثُ هو صوتٌ مسموعٌ وحروفٌ تَتوالى في النُّطق؟
أم كلُّ ذلك لما بينَ معاني الألفاظِ مِنَ الاتِّساقِ العجيب؟
تعليقات
إرسال تعليق